الأخبار اليوميَّة التي تحمل إلينا حوادث التحرش ومعاكسة الفتيات وجرائم الرشوة والسرقات وتجارة المخدرات والإدمان والقتل.. كل ذلك مؤشرات تؤكد انهيار الأنماط والقيم الحاكمة للأخلاق في مجتمعاتنا، ولكن ترى لماذا هذا التدهور؟ وهل من سبيلٍ لإيقافه؟
في البداية يصنف د. أحمد عبد الرحمن (أستاذ الفلسفة الإسلامية وعلم الأخلاق بجامعة عين شمس)، الأعمال الاجتماعية التي يقوم بها الناس إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث طبقات، الطبقة الأولى هي الطبقة العليا من الأفعال، وتشمل ضروبًا من العطاء الاجتماعي دون مقابل، كالأعمال التطوعيَّة والتبرعات، والطبقة الثانية هي الطبقة الوسطى من الأفعال، وتشمل ضروب السلوك التبادلي والتعاوني ومعظم السلوك البشري، والقوانين تنظِّم هذه الطبقة ليتحقق تبادل المنافع للطرفين وللمجتمع، والطبقة الثالثة هي الطبقة الدنيا أو السوداء، وتضم كل أنواع السلوك المضاد للمجتمع من جرائم أو مخالفات أو معاصي ومنكرات، والتدهور يعني أن السلوك الواقع في الطبقة السوداء قد ازداد، وأن السلوك الواقع في الطبقة الأولى قد تضاءل، ولكي نحكم بوجود تدهور أو لا.. نحتاج إلى إحصاءات دقيقة وشاملة ترصد السلوك في الطبقتين الأولى والثالثة في سنواتٍ عديدة متوالية.
ويضيف د. أحمد عبد الرحمن: "إن لكل مجتمع قيمه العليا التي يحرص عليها والتي يحرص على صيانتها.. وفي ضوئها يحكم على الأفراد، ولكننا في العالم العربي والإسلامي لدينا ازدواجية قيميَّة؛ فالقيم الاجتماعية الكبرى هي الدين والنفس والمال والعقل والعرض، وهي المقاصد العليا للشريعة، لكن الفئات العلمانيَّة لا تتفق مع الأغلبيَّة المسلمة على هذه القيم، وما يعد تدهورًا عند إحدى الفئتين قد يعد سموًّا وتقدما في معايير الأخرى، فالدين عند الأغلبية المسلمة هو القيمة الكبرى الحارسة لكل القيم الأخرى، وأي إهمال أو انتهاك له يعد سلوكًا سلبيًّا، في حين أن الأقليَّة العلمانيَّة، في حين أن الأقليَّة العلمانيَّة ترى أن من الضروري لتحقيق التقدم إهمال الشريعة والأخلاق الإسلاميَّة، وتعتبر التمسك بها رجعيَّة وظلاميَّة، ومثلا فإن تعاطي الخمر جريمة في الإسلام، أما من وجهة النظر العلمانيَّة النظر العلمانيَّة فهو سلوكٌ راقٍ.
وبالنسبة لقيمة النفس فإن مجتمعاتنا الآن تهملها وحياة الإنسان لا تحظى بالأهمية اللائقة بها، أما القيمة الثالثة وهي المال فإن الإسلام جعل له حرمة خاصة، والإسلام يطارد الكسب الحرام والسرقة، أما في الفكر العلماني فيجوز تأميم المال دون مقابل أو مصادرته دون تمييز بين حلاله وحرامه، كما يسمح الفكر العلماني بكسب المال من وجوه محرمة كالربا والقمار.
أما القيمة الرابعة -وهي العقل- فقد صانها الإسلام وحافظ عليها وجعل تعطيله أو إهماله أو تضليله جريمة، ولكن الملاحظ أن التوجه العلماني المسيطر على الإعلام يضلل العقول ويتبنى مناهج التعليم المضلِّلة.
أما القيمة الأخيرة -وهي العرض- فإن السمعة الطيبة والطهارة والعفَّة يحافظ عليها الإسلام، وكذلك ما من شأنه المساس بالعرض كقذف المحصنات والتشهير والطعن والسب والهجاء والاغتصاب وهتك العرض، فإن كل عمل يبغي مقامة ذلك هو عمل إيجابي، إلا أننا نرى أن العلمانيين لا يعترفون أصلا بقيمة العفة التي هي جزء أساسي من العرض، وهم يؤمنون بحق الأفراد في ممارسة الجنس خارج حدود الزواج".
ويرى د. أحمد عبد الرحمن أن الصحوة الإسلامية أوقفت تدهور السلوك الاجتماعي في مجال العرض، أما الخروج من المأزق فيراه في التربية في البيت والمدرسة ومن خلال الإعلام والآداب والفنون وكذلك التخلص من الازدواجية الثقافيَّة ويكون البديل هو الانحياز الكامل للإسلام. وفي النهاية يؤكد أن الأزمة الاقتصادية لها جوانب مخربة على الوضع الاجتماعي، فالمتعطل والجائع والعاجز عن إيجاد مسكن والعاجز عن الزواج وعن العلاج كل هؤلاء لا يُنتظر منهم الالتزام بقيم المجتمع.
أما د. صلاح عبد المتعال (الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعيَّة والجنائيَّة المصري) فيقول: "إن تدهور السلوك الاجتماعي يتسع إلى معنى أوسع، وهو نوع من عدم الانضباط الفكري أو السلوكي إزاء القيم الحاكمة في المجتمع، ويحدث ذلك عندما يبدأ انحراف الفكر والأخلاق، فالكل لا يعرف المعايير السائدة في المجتمع، ولا يعرف التمييز بين الخطأ والصواب.
ومن المؤكد أن للغزو الفكري والثقافي والصهيونية دورًا في تنامي هذه الأنماط المنحرفة من السلوك، إنني قرأت عن حادث سرقة أبطاله طبيب ماهر وموظف في فندق خمس نجوم وشاب حاصل على دبلوم صناعة، سرقوا لأنهم أدمنوا شم الهيروين، وكان مكان الاجتماع والشم هو بار الفندق ذي النجوم الخمسة، الذي هو مرتع خصب لهذه الجرائم، فكيف بنا وقد امتلأت حياتنا بهذه الفنادق وهذه البارات؟".
اختل لدينا معيار الحكم على الأمور
ويرى المفكر الإسلامي د. محمد عمارة أنَّ تدهور السلوك لدينا ليس ظاهرة معاصرة، وليس فقط مرتبطًا بالاستعمار، ولكننا لدينا تخلف موروث وألوان من التدهور الاجتماعي حتى قبل مجيء الاستعمار وما جاء به من علمانيَّة، لكن الوافد الغربي أحدث خللا في المعيار، بمعنى أننا قبل الاحتلال كنا متفقين على موقف واحد لتعريف ما هو الخلل، فالحلال والحرام -رغم وجود التدهور في الماضي- كان هناك اتفاق عليهما، وكان هناك اتفاق على تعريف ما هو القويم وغير القويم في السلوك، ولكن الخلل في المعيار جاء مع قدوم المستعمر الأجنبي، فعندما يكون الميزان صحيحًا تعرف أن فلانًا على حق في فعله، وأن الآخر على باطل، فماذا يحدث إذا كان الميزان نفسه فيه خلل؟
إن الاستعمار أضاف كمًّا من التدهور وخللا في الميزان الذي يفرق بين الحسن والقبيح؛ فمنذ الدولة الأموية تغيرت الأمور، فحل الجور محل الشورى لكن نطاق عمل الدولة كان محدودًا، فالدولة كانت تفتح البلدان، أما من يجاهد وينشر الإسلام فكان هو الأمة، والأمة هي التي كانت تقوم على أمر التعليم والصحة، وظلت الشريعة هي الحاكمة في نطاق الأمة، والعلماء هم قادتها، وبالتالي ظل الانحراف محدودًا، ويضيف د. محمد عمارة أن القانون المرتبط بالعقيدة كان له انضباط وقوة، فحتى السارق وهو يسرق كان يعلم أن هذا انحراف وحرام وأن عليه الندم والتوبة، وبهذا المنطق الإسلامي نقلِّل حجم الانحراف ونفتح الأبواب أمام العودة للسلوك الاجتماعي السوي، أما القانون الوضعي فهو غير محترم بين الناس الذين يتحايلون عليه لأنه يخالف الشريعة.
الإعلام مسئول عن تدهور السلوك
بينما يرى د. محمود العزب (الأستاذ بجامعة عين شمس) أن هناك منذ فترة طويلة محاولات مستميتة ومنظمة من جانب الغرب ومن جانب الدوائر المرتبطة به في البلاد العربية من المتغربين والعلمانيين لكي يعزلوا القطاعات الشعبية العريضة عن عقيدتها الإسلامية وعن تمسكها بتراثها وتقاليدها التي تتناقلها عبر الأجيال، والإعلام من الوسائل المستخدمة في ذلك من أجل إذابة الصلابة أو التماسك الديني للقطاعات الشعبيَّة العريضة، عبر نشر عادات وتقاليد وأنماط سلوك متغربة على أوسع نطاق من خلال الإذاعة والتليفزيون والسينما والمسرح والفيديو، فالأفلام المستوردة التي تبثُّها هذه الأجهزة يدور مضمونها حول أوضاع وعلاقات أسريَّة وشخصية تخالف تعاليم الإسلام.
كما أن التعليم في بلادنا وانهزامه أمام الفكر الغربي قد أدى إلى أننا نتبنى قيمًا ومفاهيم غريبة علينا ومخالفة للإسلام بدعوى التطور والتقدم تم صهرها في عقول أجيالنا، فصعب على هذه الأجيال التمييز بين الحق والباطل، إننا نصطدم بنماذج اجتماعية غريبة وعلاقات مشبوهة لنساء ورجال متزوجين لم نكن نسمع عنها من قبل، فقد طال الطوفان كل المستويات وأصبح هناك استسهال للمحرمات، ومسئوليتنا كأفراد وجماعات أن ندق ناقوس الخطر ونجري دراسات علمية دقيقة على كافة المستويات للتحذير من الطوفان الذي يجتاح مجتمعاتنا في صورة انهيار أخلاقي واسع.
الكاتب: د. ليلى بيومي
المصدر: موقع موقع الإسلام اليوم